فنيات الدراما ومشهدية البناء السردي قراءة نقدية في رواية (عذارى أوراق التوت) للأديبة سعدية عبد الحليم

بقلم
جابر الزهيري
الرواية كبناء سردي محكم يتأسّس على عناصرَ متعدّدة من شخصيات وأحداث وأزمنة وفضاءات أمكنة وحوار وحبكة. وهي أيضا موهبة التصوير بالكلمات، فعل كتابتها بمثابة تصوير تخيلي لغوي من تشكيل الكاتب، أمّا قراءتها فهي مباشَرةُ عمليةِ تخيُّل بصريّة لتلك الكلمات. فهي مجموعة من المشاهد المرئية تجسّدها اللغة؛ مشاهد جزئية تتشابك وَفْق برنامجٍ سرديّ مُشكِّلة ومُتمِّمة مشهدًا عامّا ينتهي إليه النصّ. وتقوم القراءة المشهدية بتحليل هذه الوقفات التصويرية في الرواية بالاعتماد على مجموعة من العناصر البصرية فيها من وصف وتأثيث مكانيّ وحوار وحدث كذلك وصف ملامح الشخصيات وعواطفها وانفعالاتها داخل المشهد. وهذه المشهدية متفاوتة بين النصوص، وهي تتيح للنصّ الروائي المزدحم بالتفصيلات المشهدية والصور أن يمنح القارئ متعة الرؤية الخيالية بمنظوره هو، وللمخرج في حالة إعدادها سينمائيا أن يجسد الكلمات في مشاهد مرئية.
وفي رواية (عذارى أوراق التوت) نجد أن الكاتبة قد اعتمدت على فكرة تقسيم العمل إلى لوحات تشريحية للشخوص والأحداث، تحمل أسماء الأبطال أحيانا؛ أو ما ينم عن الصراع الدرامي أحيانا أخرى، لتتشابك كل هذه اللوحات كي يكتمل المشهد العام للعمل الأدبي؛ وكأنها تسير في خط أفقي للحدث؛ جامعة من خلاله كل خيوط الحبكة من خلال التحليل النفسي والاجتماعي والثقافي لكل شخصية بالعمل.
فمنذ بدأت الراوية -التي هي ذاتها الكاتبة- في التمهيد للعمل، وإلى أن وصلت إلى الخاتمة التي توضح بها شخصيتها التي من خلالها ينبع إنتاجها الأدبي الذي لا ينفصل عن المجتمع وقضاياه، تسير بالقارئ على مدار زمن لا يتجاوز الأربع وعشرين ساعة، منذ أن بدأت الأحداث بخروج حازم سائق سيارة الأجرة للبحث عن رزقه مع بدايات المساء، إلى أن عاد في مساء اليوم التالي لمنزله بعد أن تكشفت له -وللقارئ- العديد من الأسرار التي تحويها صدور الشخصيات.
(فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) هذا ما يتبادر إلى الذهن بعد قراءة العمل، فقد بدت سوءة المجتمع من خلال ما كشف من أسرار وكأنها تريد أن تقول: إن أوراق التوت لن تستطع أن تواري تلك العورات دوما، فكل سر لابد وأن ينكشف في وقت ما، فالمجتمع الذي يختبئ خلف أسرار وخفايا ربما جاء وقت وسقطت عنه تلك الورقة الساترة، ليظهر للجميع أو للبعض ما جعله في طي بئر الكتمان لحقب زمانية جعلته يعتقد أنه في مأمن من العيون المترصدة والعقول الفضولية.
اعتمدت الكاتبة على نظرية التحليل النفسي للشخوص، وما يسكنها من دوافع نفسية، وما يحكمها من ظروف مجتمعية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تؤثر بالقطع على ارتكاب ما يعجل بسقوط ورقة التوت التي يستر بها سوءته عن غيره.
الأماكن التي استعرضتها الرواية جاءت أيضا كمقطع رأسي فاختارت شوارع العاصمة؛ حيث يتحرك البطل بسيارته الأجرة، ومحطة مترو الأنفاق حيث كانت رضا تبيع بضائعها، ومنزل حسين المصري، وحجرة سميحة، وحجرة أم الغريب، وشقة سيد، وقسم الشرطة، وكأنها تريد أن ترصد تلك الفئة التي تمثل الغالبية العظمى من الشعب، فتبدع في سرد درامي رائع يصور بالكلمات مشاهدا بصرية يراها عقل القارئ، وكأنه يترجم اللوحات السردية إلى مشاهدات بصرية، بعضها يصل إلى فلسفة المقارنة بين صورتين من الواقع، أبرزها مشهد حسين المصري فوق دبابته يتملكه الفخر والعزة، يشير بعلامة النصر بين الجماهير التي تحيه على عودته منتصرا، وبين مشهده وهو في صندوق مركبة لنقل البضائع منكس الرأس، يخفي وجهه عن المارة في مذلة وهو يتوجه نحو قسم الشرطة لإنقاذ ولده. مقارنة المشهدين ترتبط -لا إراديا- في العقل بما آلت إليه الظروف المحيطة بالشخصيات مع مرور زمن الانفتاح وما تلاه وصولا إلى عصر الثورة الحديثة، أو كما رأيتها، بعد سقوط ورقة التوت عن سوءة مجتمع بأكمله، فالشخص هو هو، وفي الحالتين جسده مكشوفا لعيون الجماهير، بينما تختلف تعابير النفس بين عزة وانكسار.
شخصية سيد، ذلك الباحث عن المتعة بين حكايا وأسرار المومسات، لا أجسادهن، شخصية ثرية دراميا، تحمل من التحليل النفسي العديد من الرؤي، رغم توارد إلى ذهن القارئ أنه ذلك الولد المفقود من أم الغريب حينما تجمعهما الراوية عن طريق مصادفة حادث سير، رغم كون الكاتبة لم تصرح بتعارف أحدهما على الآخر، إلا أنها أوحت إلى المتلقي أنه هو الولد التائه، من خلال مشهدية وحوارية تحمل من الغوص في الذكريات العديد من نماذج التصوير الدرامي خاصة عند نظره نحو الصورة الخاصة بطفل لم يتجاوز الخامسة.
رضا أو صابرين، التي أخذت من حسين المصري الاسم كابنة، إلا أنها أقرب إلى شخصيته -كما صرحت الكاتبة_، وبما صنعت من نسيج شخصيتها ما يبعدها عن والدها الحقيقي الذي ترفضه، بل تعتبره زوج أم تفر من المعيشة معه، فجعلتها من الشخصيات المحورية كوالدتها سميحة، التي حملت بذرتها في لحظة ضعف عندما كانت تبحث عن الحب.
لكني أتعجب من شخصية الابن الأصغر لحسين المصري الذي رغم كونه يعيش مع والده وأخيه حازم إلا أنه جاء في دور باهت لا يثمن ولا يغني من جوع.
عذارى الرواية اللاتي يقصدهن العنوان يشير إلى علامات استفهام كثيرة، وفقا لما جاء من أحداث، هل هن تلكم الفتيات الصغيرات اللواتي يتاجر بأجسادهن تحت مسمى الزواج من العرب عن طريق مكاتب تمتهن تسهيل التعارف وعرض الأعراض لمن سيدفع العمولة قبل الثمن؟ هل هن سميحة وابنتها؛ بما يحملن من أسرار دونتها الأم في دفتر مذكراتها الذي وصل إلى حسين في النهاية؟ هل هن الباحثات عن الحب، الأمان، المال، في زمن يفتقد لكل ذلك فيلجأن إلى كتم أسرارهن وسترها بأوراق التوت التي تتساقط بما يقدره الواقع من أحداث؟ أم رمزية ستر وجه البائعة رضا بالنقاب؟ أم ما بداخل حقيبة الغانية من ملابس بدلتها قبل ذهابها لمن طلبها؟ هل هن عذارى الأسرار التي مازالت بكرا لم يفض بكارتها أي من الفضوليين أو المتلصصين؟ أم هل….؟ أم…؟
مشهدية التصوير النفسي كان رائعا في وصف حالة التوتر والخوف الذي تملك حازم بعد انعدام التواصل مع (الغانية)، ومشهد دخول المسجد للدعاء للغانية بالعودة السالمة رغم تأكده من عصيانه وعصيانها إلا أنه لجأ إلى تحقيق الوعد، كذلك السخرية من مشهد حبيبته التي وعدته أن تخلص له حتى وهي مع زوجها فشاهدها تسير بجوار زوجها حاملة بذرته في أحشائها، ليلته التي قضاها على تذكر ملامسته المفتعلة لجسد الغانية أثناء توصيلها.
اعتمدت الكاتبة في أحداث الرواية على ما يحدث في واقعنا المعاش من قضايا _كما وضحت في البدء والختام_ فبالفعل ربما يكتشف شخص ما وجود إخوة له لم يكن يعلمهم حال استخراج وثيقة، وكذلك ظاهرة زواج الفتيات الفقيرات من أثرياء العرب الذين يبحثون عن الأجساد الغضة مقابل المال، وقد حددت جغرافيا تلك المنطقة التي اشتهرت بذلك، وأيضا مهنة سائق سيارة الأجرة الذي يلتقي بمعظم شرائح المجتمع كزبائن له، إن ظهرت في الحبكة الدرامية كمصادفة، إلا أنها المصادفة التي ألفها الواقع فجعلها لا تميل إلى ميل الكاتب إلى حل قدري، إلا أنني أجد بداخلي علامة استفهام في حدث موت سميحة _وأعتقد أن الكاتبة أرادت بهذا الموت أن تعود ابنتها إلى حسين والدها بالاسم_ لكن لو تركتها للقاء حسين لتغير مجرى الأحداث.
النهاية جمعت كل الخيوط حيث أشارت إلى سلامة السيدة التي كانت محورا أساسيا في العمل بعد اتصالها برضا، وعودة حسين وحازم يصحبان ابنته إلى منزله، تاركة مجالا لتخيل القارئ في استكمال الأحداث.
أستطيع أن أقول لقد تمكنت الكاتبة من خلال فنيات الدراما، ومشهدية البناء السرديؤ من تكوين عمل مكتمل الأركان يحمل قضية أساسية،؛ وهي كشف عورات مجتمع يئن من التظاهر بالمثالية ولا تستطيع أي أوراق توت أن تسترها، فالكاتب المؤمن برسالته لا يكتب إلا من قلب مجتمعه كي يظهر صدق كلماته.
