مقالات

في ذكراه … عبد الناصر لم يضيع السودان

بقلم: د. غادة محمد عبد الرحمن
في الذكرى الـ 54 لرحيل الزعيم الخالد الرئيس جمال عبد الناصر لن نتحدث عن إنجازاته المتعددة، التي أفرد لها التاريخ مساحات في أزهى صفحاته، ولن نتحدث عن ما به من مميزات وخصال حميدة، جعلته معشوق للملايين، بل سنذهب إلى الجهة الأخرى، لنبحث بمنتهى الأمانة في ما نسب إليه من أخطاء، ووجه له من تهم، ونقف عند الحقائق بمنتهى التجرد، وبعيد عن أية عوامل مؤثرة، سواء كان بالإيجاب، أو بالسلب.
ويعد إنفصال السودان عن مصر، من أبرز التهم الموجهة للزعيم عبد الناصر، حيث يُتهم من قبل معارضيه أنه المتسبب الرئيسي في حدوث هذا الإنفصال، وللأمانة وقبل الدخول في أية تفاصيل، علينا الأعتراف بعدم منطقية هذا الاتهام، نظراً لما يعرف عن الرئيس جمال عبد الناصر من إيمانه الشديد بفكرة الإتحاد، وما بذله من مجهود كبير في سبيل تحقيقها، سواء كان الإتحاد على المستوى العربي، أو الافريقي، أو الإسلامي، أو الافرو اسيوي، ومن ثم لا يُعقل إلصاق تهمة التسبب في إنفصال السودان عن مصر بشخص كالرئيس عبد الناصر صاحب الفكر، والنهج الوحدوي.
وبعيد عن هذا، وللوقوف عند الحقائق، والأسباب الفعلية، التي أدت إلى إنفصال السودان، يجب أن نأخذ في الاعتبار إن مصر والسودان لم يكونا دولة واحدة وتم تقسيمها إلى دولتين، بل إن لكل منهن مقومات الدولة المكتملة، كما يوجد بينهن حدود فاصلة رسمت بموجب إتفاقية الحكم الثنائي عام ١٨٩٩م، هذا بالإضافة إلى أحتفاظ كل منهن باسمها ولم يندمج الاسمان في اسم واحد تعبيراً عن الدولة الواحدة، بل ظل المسمى “مصر والسودان” وهذا أصدق تعبير عن بقاء الدولتين، كما ان وحدة مصر والسودان لم تأتي بناءً على إتفاقية أُبرمت من قبل الدولتين بإرادة حرة، تعبيراً عن رغبة الشعبين في الإتحاد، بل جاءت بناءً على احتلال مقنع، تارة بقناع الضم، وتارة أخرى بقناع الإدارة.
وقد بدأت القصة عام ١٨٢٠م عندما قام محمد علي والي مصر بإطلاق حملة عسكرية لضم السودان لدولته، وذلك لوصول محمد علي لعدة أهداف، من بينها، القضاء على فلول المماليك الهاربين إلى السودان عقب مذبحة القلعة، والاستعانة بالسودانيين في تكوين جيشه الجديد، واستغلال مناجم الذهب التي قيل إنها تتواجد في أرض السودان، هذا بالإضافة إلى توسيع رقعة دولته، ومن ثم جاء ضم السودان لخدمة طموح محمد علي التوسعية، ولم يكن لمصر وشعبها أي مصلحة، وكذلك السودان الذي تم احتلاله، وسلب حرية أبناءه بذلك الضم، وقد استمر ذلك الوضع حتى عام ١٨٨١م، حيث قامت الثورة المهدية بقيادة محمد أحمد المهدي، والرافضة للحكم المصري تحت الولاية التركية في السودان، وقد نجحت الثورة في القضاء على التواجد المصري في السودان.
ثم عاد الإرتباط المصري السوداني من جديد، وذلك بعد أن قامت بريطانيا بغزو السودان، ثم عقد إتفاقية الحكم الثنائي للسودان بين مصر وبريطانيا عام ١٨٩٩م، التي نصت على حكم السودان من قبل الحكومتين المصرية والبريطانية، وذلك في ظل غياب تام للطرف السوداني، لتأتي تلك الإتفاقية على غير الإرادة السودانية، ولهذا أعتبرها البعض استعماراً مصرياً بريطانياً للسودان، وهذا القول يجافي الواقع، حيث أبرمت تلك الإتفاقية في ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومن ثم كانت مصر مجرد تابعة لبريطانيا، لا تملك من الأمر شيئاً، مرغمة على الإنضمام لتلك الإتفاقية، من أجل سداد العجز في ميزانية السودان، حيث نصت الإتفاقية على تحمل الحكومة المصرية كافة النفقات في السودان، أما الحكم فقد كان لبريطانيا منفردة، وهذا ما ظهر جلياً في عدة أمور.
كان من بينها نص الإتفاقية على أن يكون الحاكم العام للسودان بريطانياً ،ويكون معاونه مصرياً، والذي لم يكن له أية سلطات فعلية على أرض الواقع، كذلك رفض بريطانيا نص الدستور المصري على لقب “ملك مصر والسودان”، وصدور دستور ١٩٢٣م مكتفياً بلقب “ملك مصر”، وقيام بريطانيا بإخراج الجيش المصري المتواجد في السودان مستغلة في ذلك حادثة اغتيال الحاكم العام للسودان السير “لي ستاك” في القاهرة عام ١٩٢٤م، وهذا ما يكشف حقيقة الوضع المصري في السودان، ولذلك حاولت مصر إلغاء إتفاقية الحكم الثنائي، من خلال عدة جولات من المفاوضات مع الجانب البريطاني، ولكنها لم تفلح في ذلك بسبب تمسك بريطانيا بالإتفاقية.
وذلك إلى أن قام مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر في اكتوبر عام ١٩٥١م بإلغاء الإتفاقية من طرف واحد، وجاء ذلك مع إلغاء إتفاقية ١٩٣٦م، حيث قام النحاس بتقديم مرسوم إلى البرلمان المصري يتضمن إلغاء الإتفاقيات، ومرسوماً آخر يتضمن إن يكون للسودان دستور خاص، تضعه جمعية تأسيسية تمثل الشعب السوداني، كما تقوم هذه الجمعية بوضع قانون الانتخابات السودانية، كذلك النص على إنشاء مجلس وزراء من السودانيين، وقد وافق البرلمان وبالإجماع على هذه المراسيم، ومن ثم أصبح للسودان دستوراً خاصاً تضعه جمعية تأسيسية تمثل الشعب السوداني، وقانون إنتخابات خاص به، ومجلس وزراء من السودانيين، وهذا ما يعد بداية حقيقية لإنفصال السودان عن مصر، ودعماً لرغبة الإنفصال والاستقلال لدى السودانيين، والتي عبرت عن وجودها في عدة وقائع حدثت عبر فترات زمنية متفرقة.
منها ما أعقب إلغاء النحاس للإتفاقيات من صدور بيان من الجمعية التشريعية السودانية تستنكر فيه محاولة الحكومة المصرية فرض السيادة على السودان دون استشارة الشعب السوداني، كذلك رفضت الأعتراف بالدستور الذي سنته الحكومة المصرية للسودان، كما أعربت عن تقديرها لإعلان الحكومة البريطانية المتكرر بأن مستقبل السودان سيقرره السودانيون أنفسهم، هذا بالإضافة إلى ما قامت به لجنة تعديل الدستور من إرسال برقية إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، تطالب فيها بتعيين لجنة دولية لإدارة السودان، ولكن لم ينفذ الطلب.
وتتوالى الأحداث التي تؤدي في مجملها إلى إنفصال السودان، فمن ناحية مطالبة أبناء السودان بالاستقلال، وانهاء الاحتلال، وانهاء كل الأوضاع المترتبة عليه، ومن ناحية أخرى سياسة الاحتلال المحرضة على الإنفصال، والداعمة له منذ عشرات السنين، وهذا إلى أن قامت ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢م، والتي وجدت إنفصال السودان وقد أصبح مسألة وقت ليس إلا، ليتحول إلى واقع ملموس، لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال، وهذا ما أدركته الثورة وقائدها، خصوصاً وأن الثورة قد جاءت لتحرير مصر والسودان، وكان استقلال الشعبان أول أهداف الزعيم الخالد، وهذا ما تم عن طريق المفاوضات مع بريطانيا، التي ربطت مفاوضات الجلاء بالاعتراف المصري بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره، وذلك لضمان إنفصال السودان عن مصر، والحيلولة دون قيام الوحدة بين الدولتين.
ومن أجل تحرير السودان واستقلال شعبه، وافقت مصر الثورة على منح الشعب السوداني حق تقرير المصير من خلال إتفاقية تقرير مصير السودان، التي أُبرمت بين مصر الثورة وبريطانيا في فبراير عام ١٩٥٣م، وقد نصت على حق السودان في تقرير المصير، وذلك خلال ثلاث سنوات كفترة انتقالية، يتم خلالها تهيئة الأجواء حتى يتمكن الشعب السوداني من الاختيار الحر بين الإنفصال والاستقلال التام، أو الاستمرار في الوحدة مع مصر، وفي هذه الحالة ستأتي الوحدة معبرة عن إرادة الشعب السوداني واختياره الحر، وهذا ما يحكم به العقل والمنطق السليم، فمن غير المقبول أن تنادي الثورة بالحرية والاستقلال، وأن تنكر ذلك على الشعب السوداني.
وقد اختار السودان الإنفصال، حيث صوت البرلمان السوداني لاستقلال البلاد، ثم أُعلن استقلال السودان رسمياً في الأول من يناير عام ١٩٥٦م، وكانت مصر الثورة أول الدول التي أعترفت باستقلال السودان، وذلك احتراماً لإرادة الشعب السوداني ورغباته، مهما كان قراره.
وأخيراً، أود أن أوجه بعض الأسئلة لمن يتهمون عبد الناصر بضياع السودان، إلا وهي كيف تتهمون الزعيم الخالد بالتسبب في إنفصال السودان، وقد جاء لحكم البلاد فوجد الإنفصال وأصبح حقيقة مؤكدة منذ سنوات؟ وأين هي السياسات الخاطئة التي انتهجها جمال عبد الناصر وأدت إلى إنفصال السودان؟ هل كان يجب أن يرفض استقلال السودان، ويبقي على وضع من صنيعة الاحتلال؟ أم كان عليه أن يجبر الشعب السوداني على الوحدة بقوة السلاح؟ عليكم أن تجيبوا على هذه الأسئلة حتى تدركون جيداً أن عبد الناصر لم يُضيع السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى