مقالات

وماذا بعد الخداع

وماذا بعد الخداع

وماذا بعد الخداع

بقلم يحي خليفه

يحمل الكذب معاني التقول والتضليل والخداع والإيهام والغش والمخاتلة والنصب والتزوير والتزييف والمراء والدهاء والحيلة والإيقاع في الأحابيل وخفاء الأسرار والغدر والخيانة والمكر والمراوغة والمناورة إلى جانب تبرير فعل شائن، أو تلميع صورة، أو إخفاء فضيحة. والكذب هو نوع من الخداع، ولكن ليس كل خداع هو بالضرورة كذبا، فللخديعة نوعان آخران، الإخفاء والتلفيق، ولا يشترطان أن تصحبهما عبارة كاذبة، ويبدو الكذب السياسي ابن السلطة، التي عندما تظهر بين الناس تقسمهم إلى حاكم ومحكوم مما يعطى فرصة للأكاذيب، ظاهرة ومقنعة، كي تتسرب عفيه بين شقوق ومسام هذه القسمة. وقد جعلت العلاقة العضوية بين الكذب والسياسة فلاسفة وكتاب دواوين ومؤرخين ومستشارين وقضاة يعنون بتأليف الكتب والرسائل في فنون الكذب السياسي في مختلف الثقافات عبر العصور، حتى صار للكذب مراحل تطورية، يقطعها وهو يسير متبخترا في ركاب السياسة، حتى كاد يصير مبحثا مستقلا تدور حوله مفاهيم وإشكالات ونظريات ومناقشات، بل صار جزءا من صميم العمل السياسي، سواء كان في ظل نظام ديمقراطي أو استبدادي، ويجد الكثير من السياسيين مبررات لممارسة الكذب وهم مستريحو الضمير.

ورغم أن الكذب هو طريقة للسطو على الحقيقة وإلغائها، أو هو حقيقة ذاتية بديلا عن الحقيقة الموضوعية فإن محترفي الكذب من السياسيين طالما يعتبرون أن من حقهم الكذب لأن مصلحة الدولة والشعب تقتضى هذا من وجهة نظرهم، مدفوعين فى هذا بعدة اعتبارات براجماتية، هل يمكن الكلام عن الحق في الكذب في المجال السياسي، وأولها أن السياسي كي يكسب الناس إلى جانبه فعليه أن يحرف المعطيات والوقائع والحقائق، ويزيف الأخبار والمعلومات بتضخيمها أو نفيها أو التقليل من شأنها. وثانيها أن بعض الساسة يؤمنون بأن التغيير يتطلب أحيانا تزييف الوقائع أي ممارسة الكذب، وثالثها تخص القادة الذين يعتقدون أحيانا أن عليهم مسؤولية أخلاقية تدفعهم إلى الكذب بغية حماية بلادهم، وبذا يكذبون أحيانا فى قضايا السياسة الخارجية عن قصد وتعمد، حيث يقولون أو يوحون بأمور يعلمون أنها غير صحيحة، مطمئنين إلى أن شعوبهم عادة لن تعاقبهم بسبب خداعهم، إلا إذا أدى ذلك الفعل إلى نتائج وخيمة، ورابعها ترتبط بأولئك الذين يرون أن السياسة هي أقرب ما تكون إلى الشعر، في نزوعها إلى الخطابة، وكما أن أعذب الشعر أكذبه فإن أعذب السياسة أكذبها. وخامسها هو أن أغلب الساسة يجدون دوما في أسماء الكذب وأفعاله ما يبررها بدعوى أنه من دون المفاهيم الخاطئة والصور الخيالية والأوهام تبدو الحياة مستحيلة ومقززة، بل يصبح العلم نفسه غير قابل للتصور من دون أساطير واستعارات. وسادسها تتعلق بمن يقتنعون بأنه لا مفر أمام السياسي من الكذب مهما علت همته الأخلاقية، لاسيما إذا كان الجمهور يتوقع منه أن يفعل هذا ليستدرجه إلى أوهامه وأحلامه. وسابعها قد يعود إلى نفسية الحاكم، التي تجعله دوما ينكر حقيقة موجودة أو يحتقرها ويفر من قسوتها، لأنه يراها تهدد مصالحه ووجوده.

ولا يعنى ما سبق ضرورة المصالحة بين السياسة والكذب، ولا يمكن تفسير الكذب بالغفلة والنسيان واللاوعي وعدم الانتباه كما فعل نيتشة وفرويد وكأنط بشكل ما، إنما يجب أن يتوافر القصد في الكذب كي يكون كذلك، مثلما تحدث سارتر عن سوء النية، فالكاذب السياسي يعرف الحقيقة، إلا أن يضعها جانبا، ويطلق معلومات مضللة تسمح له بتحقيق أغراضه، بالكذب على الجسم السياسي للمجتمع بأسره حسبما يرى كأنط نفسه، وانتشار الكذب فى دولة ما قد يدمر كيانها، ويضعف من استقرارها وأمنها الداخلي، مهما تم التذرع بأنه كذب نبيل أو أبيض أو إيثاري. وحتى لو كان الساسة يرون أن الكذب على العالم الخارجي مباح ومتاح فعليهم أن يدركوا أن هذا النوع من الكذب له ارتداد ضار على الداخل مع مرور الوقت.

وماذا بعد الخداع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى