أدب

المجهولة

د.أسامة مصاروة

في حارةٍ سوداءَ كالليلِ البهيمْ
حيْثُ البرايا مثلُ أشباحٍ تُقيمْ
هناكَ حيْثُ لا يُرى ضوْءُ سَديمْ
تعيشُ حسناءُ رِياحٍ وَهزيمْ
حسناءُ كانتْ إنَّما لا يُدْرِكونْ
معنى الجمالِ بلْ همْ لا يمْلِكونْ
حِسًا لَهُ وَنهْجَهُ لا يسْلُكونْ
بلْ إنْ رآها البعضُ منهم يضْحكونْ
جوْهرةُ الحارةِ كانتْ إنّما
مجهولةٌ شفّافةٌ فَكلَّما
مرّتْ أمامَهم أصابَهم عمى
أو نَظَروا دونَ اكْتِراثٍ للسما
وذاتَ يومٍ صُدفةً رصدْتُها
تجلِسُ فوقَ ربْوةٍ صعدْتُها
شارِدًةً مشدوهةً وجدْتُها
لمْ تنتَبِهْ لي حينما قصَدْتُها
حتى متى اقْتَربْتُ منها لم تَقُمْ
كأنّها من قبلِ عامٍ لمْ تَنمْ
أمْ أنّها كانتْ هناكَ مِن سأمْ
أوْ بانْتِظارِ قادِمٍ مِنَ العَدمْ
سألْتُ نفسي ما الّذي يُشْغِلُها
بلْ ما الذّي يا هلْ تُرى يجْعَلُها
تنأى وعنْ حارَتِها يعْزِلُها
أوْ رُبّما عنْ أهلِها يفْصِلُها
وقفْتُ عن بُعدٍ أسيرًا للفُضولْ
ومُشْفِقًا على ثرى أرضٍ بَتولْ
راقبْتُها قبلَ مغيبٍ وأُفول
ناظِرَةً نحوَ سُهولِ وحُقولْ
وأيْنما تنظُرُ حولَها المدى
وفي المدى ما لنداءاتٍ صدى
مَعِ الرِياحِ يذهَبُ الصوتُ سُدى
أمّا الرُؤى فدونَ وعْيٍ أو هُدى
طالَ انْتِظاري إنَّما لم أنْسَحِبْ
بلْ كلَّما طالَ أراني أنْجّذِبْ
معْ أنَّ صمْتًا صارِخًا قَدِ اسْتَتَبْ
هناكَ أمرٌ عنْ عيوني قَدِ احْتَجَبْ
يا ليْتَ شِعري ما الّذي ترنو إليْهْ
يا ويحَ قلبي ما الّذي تخشى عليْهْ
هلْ مِنْ حبيبٍ ترْتَمي بينَ يديْهْ
أوْ تحْتَمي بِكلِّ إحساسٍ لديْهْ
نظرُتُ حوْلي كلُّ شيءٍ في جُمودْ
وفي هُدوءٍ وَسُكونٍ ورُكودْ
لعلَّ دُنيانا جميعًا في رُقودْ
لكنَّ دنياها فدوْمًا في قُيودْ
ظلَّتْ هُناكَ في العَراءِ جالِسةْ
والوقتُ قد كانَ قُبَيْلَ السادسةْ
يا ليْتَ شِعري هلْ تُراها حارِسةْ
مثلَ ملاكٍ للروابي الناعِسةْ
وفجأةً بعدَ انْتِظارِيَ الطويلْ
حيثُ الحِراكُ قد بدا لي مُسْتحيلْ
سمعْتُ صوتًا مثْلَ أجراسِ الرحيلْ
أوْ مثلَ رعْدٍ فوقَ دربٍ أوْ سبيل
لمْ يتَوقَّفْ لحظةً ذاكَ الهديرْ
كأنَّما فوقَ الثرى وحشٌ يسيرْ
أوْ مَدْفَعٌ هزَّ الفيافي والأثيرْ
لكنَّها لمْ تحْسِبِ الوضْعَ خطيرْ
ظننْتُها في البدْءِ مثلي خائِفةْ
إذْ فاجَأتْني حينَ هبَّتْ واقِفةْ
لكنّها بدتْ لِعيني عارِفةْ
بكلِّ ما يجري وَليْستْ آسِفةْ
ثمَّ رأيْتُها تسيرُ واثقةْ
بضعةَ أمتارٍ لقلبي حارقةْ
وفوقَ جَرْفٍ ذي صخورٍ شاهقةْ
مدّتْ يديْها هل تُراها عاشِقةْ
علا هديرُ الوَحْشِ بلْ قُلْ والزئيرْ
حتى شعرْتُ أنَّهُ يومُ النفيرْ
هلْ جاءَها يا فرحتي صوتُ البشيرْ
أمْ أنَّهُ يا ويْلتي صوتُ النذيرْ
قرَّبْتُ منها في هُدوءٍ وحَذَرْ
مُحاولًا رصْدَ حبيبٍ مُنْتَظرْ
وكانَ أنْ بانتْ تفاصيلُ الخَبَرْ
أمرٌ على بالِيَ فعلًا ما خطَرْ
في كلِّ يومٍ قبلَ أنْ يأتي المساءْ
وقبْلَ أن تخشى البَقاءَ في العَراءْ
كانَ قِطارُ الليلِ في ذاكَ القَضاءْ
يَطوي الفيافي قبلَ أنْ يطوي الفَضاءْ
مرَّ القطارُ فوقَ رمْلٍ وحَديدْ
دونَ مُبالاةٍ بحسناءَ تميدْ
حتى وإنْ ظلَّتْ تنادي وتُعيدْ
نفسَ النداءِ كلَّ يومٍ مِنْ جديدْ
د. أسامه مصاروه

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى