في الحقيقة، الموسيقى ليست كاللغة بالمعنى المفهوم، أي إنها لا تحمل أية دلالات (Semantics)، وعلى الرغم من ذلك فإننا نستجيب لها كأداة تواصل، لكن ليس لأنها صوت فقط، فنحن نسمع أصوات الضرب والاحتكاك طوال اليوم ولا يلحقنا ذات الأثر، ربما لهذا السبب تصوّر(2) فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني الأشهر، في كتابه “مولد التراجيديا”، أن الموسيقى هي شرط ترانسندالي سابق للغة، كذلك ربطها بما تعنيه “الإرادة”، بل ووضعها كصورة بدائية من وجودنا ذاته، وبذلك يكون التعرف إلى الموسيقى، بالنسبة لنيتشه، والتعرّف بها إلى العالم، هو تعرّف إلى ذواتنا، تكميل لها!
من جهة أخرى فإن تاريخ الفلسفة حافل بتأملات كثيرة حول الموسيقى، بداية من فيثاغورث الذي يُقال إن بداياته مع الرياضيات كانت عبر تأمل الموسيقى وانتظامها، إلى أفلاطون(3) “الموسيقى هي قانون أخلاقي”، مرورا بكانط الذي اعتبر أن جمال الموسيقى مرتبط بجمال تركيبها نفسه، حتى نصل إلى شوبنهاور الذي اعتقد أن الموسيقى(4) “أكثر اختراقا لذواتنا من كل الفنون الأخرى، لأن كل تلك الفنون تخاطب الظلال فقط، بينما تخاطب الموسيقى الجوهر”، ربما هنا يجب أن نوضح أن الموسيقى قد لعبت دورا خاصا في التاريخ الروحي(5) للشعب الألماني، وكانت أشبه بتعزية له عمّا سمّاه كارل ماركس “البؤس الألماني. ربما تحتاج كل تلك التصورات البديعة إلى خوض أكبر في كتابات فلاسفتها، لكن ذلك ليس موضوعنا الآن، دعنا نتحول قليلا عن التفلسف إلى العلم، حيث ترجع بدايات البحث خلف العلاقة بين الموسيقى والاستثارة العاطفية -بكل أشكالها- إلى المؤلف الموسيقي، والفيلسوف، وأحد واضعي نظرية الجمال في الموسيقى، ليونارد ماير(6) (Leonard B. Meyer)، خلال كتابه المنشور بالخمسينيات من القرن الفائت “العاطفة والمعنى في الموسيقى” (Emotion and meaning in music)، والذي استخدم تقنيات من علم النفس الجشطلتي، نظرية المعلومات، والألفة المسبقة مع أنواع محددة من الموسيقى، لتفسير تلك العلاقة.
رغم ذلك، لم يحدث -حتى الثمانينيات- أن تفاعلت النظريات الموسيقية مع علم النفس التجريبي، ربما لأن معظم الباحثين في هذا المجال كانوا بالأساس من المؤلفين الموسيقيين، لكن مؤخرا بدأت العلوم التجريبية، النفسية والعصبية، في الولوج بقوة أكبر على أرض هذا المجال البحثي، خاصة مع تطور تقنيات التصوير الدماغي (الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI) واللي تمكننا بشكل مباشر من تتبع أثر الموسيقى على دماغ مستمعها وقت استماعه للموسيقى.تواجه العلاقة بين الموسيقى والمشاعر البشرية، وهي أننا لا نعرف “أين تقع المشكلة بالأساس؟”، حيث إن هناك درجات من التناقض بين جانبين، جانب يتصور أن الموسيقى بالكامل تتلقى استجابة بيولوجية عصبية في الدماغ، لكن هناك أدلة تؤكد أن الموسيقى في العموم لا تترك هذا الأثر، بمعنى أن مقطوعة موسيقية ما قد تكون حزينة بالنسبة لك فقط، أو أن موسيقى فلكلورية فنلندية، مصرية، روسية، قد لا تكون مقبولة لك بينما تكون مقبولة لآخرين، جرّب مثلا أن تسأل الآخرين من حولك عن آرائهم في موسيقى شوبان أو فاجنر.في الجانب الآخر فإننا لا نرى أن الموسيقى تتخذ جانبا سياقيا فقط، أقصد خاصا بالسياقات الاجتماعية، لكن أيضا نجد أن هناك بعض التأثيرات العامة المرتبطة بنمط النغمات وترددها على الدماغ البشري، هنا يدخل إلى أرض الملعب كل من باتريك جوزلين (Patrick N. Juslin) أستاذ علم النفس من جامعة أوبسالا السويدية ودانيال فياسفيَل (Danial Västvjäl)، من جامعة جوتبورج بالسويد أيضا، ليؤكّدا أن الأمر المتعلق بالموسيقى هو أكثر تعقيدا من أن تشرحه آلية واحدة، أو حتى اثنتين (دماغية واجتماعية)،