الدكتورة منار عرفة تكتب: دور التكنولوجيا الحديثة فى حماية التراث والآثار

ينتشر التراث الحضارى العريق فى انحاء العالم ، ويضم حوالى الف منطقة تاريخية وحضارية وثقافية وطبيعية وهو ما أطلق عليه “مواقع التراث العالمى ” من قبل منظمة اليونسكو ويمتد هذا التراث من حديقة فيرونجا الوطنية فى الكونغو الديموقراطية حتى مدينة تدمر السورية وجبل راسمور فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفى ظل التغير المناخى والكوارث الطبيعية والحروب العالمية والثورات والتلوث البيئى نفد كل يوم جزء من هذا التراث العالمى المميز الذى يحكى لنا حضارات وثقافات شعوب انقرضت فهو بمثابة كتاب مجسد للعقول البشرية التى عاشت فى الحضارات السابقة كتاب يحكى لنا مدى رقى وعظمة ما صنعة الاجداد فكيف لا يحافظ علية الاحفاد حيث بالفعل تم تدمير تماثيل بوذا في باميان في أفغانستان (فجرتها جماعة طالبان بالديناميت في ٢٠٠١)، ومدينة “تدمر” (التي دمرتها داعش جزئيًّا عام ٢٠١٥). والمبالغ تستلزم لحماية هذه المواقع وفقا لما حددتة منظمة اليونسكوعالية جدا تبلغ ما يقرب من 4 ملايين دولار سنويًّا ، ولا يكاد يكفي حتى لحماية المواقع الثمانية والأربعين التي تواجه خطرًا وشيكًا قد يؤدي إلى فنائها إلى الأبد. ولكن ثمة بديلًا يلوح في الأفق ويبث الامل وهو دور التكنولوجيا الحديثة فى حماية وانقاذ التراث العالمى والاثار ومنها التصوير الضوئي ثلاثي الأبعاد والنمذجة والتخزين الرقمي. ويمكن أن تتحقق هذه المشروعات على أرض الواقع من خلال التعاون وتكوين شراكات بين الحكومات والجامعات وقطاع الصناعة والمؤسسات.
وذلك لصناعة نموذج ثلاثي الأبعاد، باستخدام جهاز المسح الضوئي -الذي يعمل بالليزر-لعمل مسح ضوئى ءَ على الاثر وتقوم بتجميع سحب النقاط المكونة لتركيبه وإعادة إنتاج كل ركن وشِقٍّ فيه، ويلتقط الماسح الضوئي العديد من الصور المتداخلة للجسم من كافة الزوايا الممكنة ثم يدجل دور جهاز الحاسب الالى فى تجميع هه النقاط وتكوين ملامح عامة وواضحة للاثر ثم تضيف الكاميرات الرقمية عالية الجودة اللون والبنية، وحينما يتم تجميع النموذج كاملًا، يمكن حينئذٍ عرضه أو طباعته أو معالجته وإضفاء المزيد من اللمسات عليه.
وتقوم عمليات المسح الضوئي تلك بأكثر من مجرد الاحتفاظ بذكرى في قاعدة بيانات.وباستخدام قياسات بالغة الدقة، يمكن لعلماء الآثار العثور على الممرات الخفية أو اكتشاف سر الحِيَل الهندسية القديمة، فى حاله تعرض أحد المواقع الأثرية للتدمير، يمكن استخدام الماسحات الضوئية لإعادة بناء ما كان موجودًا وهذا ما حدث بالفعل لأحد مواقع التراث العالمي، وهي “قبور كاسوبي” في أوغندا، والتي تم بناؤها من الخشب في ١٨٨٢ ثم دمرتها النيران في عام ٢٠١٠، وأُعيد بناؤها في عام ٢٠١٤، إلى حد بعيد بناءً على نماذج ثلاثية الأبعاد صُنعت في عام ٢٠٠٩، وقد تم حفظ نماذج ثلاثية الأبعاد لأكثر من 100 موقع من مواقع التراث العالمي، ويتسابق القائمون على برنامج حماية التراث العالمي لتسجيل أكبر عدد ممكن، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تمزقها الصراعات.
وفي عام 2003، شارك بن كيسيرا، وهو أمريكي من أصل عراقي ولد في الموصل، في تأسيس المنظمة غير الربحية “ساي آرك” Cy Ark؛ وهي الآن رائدة في الحفاظ الرقمي على التراث من خلال النماذج ثلاثية الأبعاد. وقد كوَّن كيسيرا ثروته من خلال تطوير وتسويق أول أنظمة محمولة للمسح الضوئي ثلاثي الأبعاد بالليزر في العالم،كانت منظمته هي أول منظمة -والآن هي أكبر منظمة- تطبق تلك التكنولوجيا على نطاق واسع. ويهدف هذا المشروع إلى الحفاظ الرقمي على 500 موقع من مواقع التراث العالمي، مستفيدًا من الموارد المالية الحكومية والخاصة والدعم الحكومي والأبحاث المتطورة لجعل العمل على أكبر درجة ممكنة من الدقة والفائدة. ويتم تخزين جميع المشروعات على أجهزة “خادم” عامة وفي مخازن آمنة لقواعد البيانات.
ويحاول حماة التراث في جميع أنحاء العالم محاكاة الأساليب التي تتبعها منظمة “ساي آرك”، والتي قامت بتوفير العمالة والخبراء وجزء من التمويل اللازم لعملية مسح “جبل راشمور”. كما أضافت “إدارة المتنزهات الوطنية” بالولايات المتحدة بعض التمويل ووفرت فريقًا فنيًّا من المتسلّقين للقيام بعملية المسح الضوئي لمناطق الأنف وأسفل الحواجب الخاصة بالنصُب التذكاري لتماثيل الرؤساء. وقد تمت استشارة شركة هندسية محلية وكذا قسم التعدين بإحدى الجامعات فيما يتعلق بالجوانب الجيولوجية للمنطقة. كما قامت هيئة “اسكتلندا التاريخية” Historic Scotland وهيئة “التراث الوطني الاسكتلندي” Scottish National Heritage وستوديو التصميم الرقمي التابع لكلية جلاسجو للفنون بجمع البيانات وعرضها، كأدوات للحفاظ على الجبل الأثري.
ويمكن أيضًا الحفاظ على المباني الاثرية المصرية ذات الأهمية بهذه الطريقة. ونظرًا لأن بعض الشركات الهندسية والمعمارية ، وغيرها تستخدم تقنية المسح الضوئي ثلاثي الأبعاد في عملها، فثمة شركات محلية متخصصة في المسح الضوئي في العديد من المدن اليوم، و على الرغم من أن كل مشروع من مشروعات المسح الضوئي لمواقع التراث العالمي يتميز بأنه متفرد بذاته، فإن تكلفة المشروع الواحد في كل الأحوال تقارب الخمسين ألف دولار، أي أنه في مقابل 50 مليون دولار يمكن إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد لجميع مواقع التراث العالمي التي يبلغ عددها ألفًا، والاحتفاظ بها للأبد. ومن ثم فإننا نناشد الحكومات والجامعات والمؤسسات غير الربحية أن تدعم عمليات الحفاظ الرقمي للتراث بهدف حماية تاريخنا وتراثنا العريق والمميز والفريد قبل تلفة ودمارة بفعل التغيرات المناخية والكوارث البشرية والطبيعية .
لذا نجد ان دور العلم الحديث والتكنولوجيا الحديثة هام جدا فى حماية التراث والاثار ومن ثم الحفاظ على مظاهر الحضارات القديمة وتعمل على رواج السياحة وانتعاش الاقتصاد والعمل على تحقيق هدف التنمية المستدامة وهو النضوج بالمجتمعات وعمل طفرة تنموية فى المجتمعات البشرية.