أدبقصة

سيدة القطار.. «قصة قصيرة» للكاتبة التونسية علياء إبراهيم

الساعة كانت تشير إلى السادسة مساءا إنه السبت ٱخر أيام العام ، تحرك القطار رويدا رويدا لم أرد شيئا حينها غير أن يتوقف هذا القطار اللعين إلى الأبد لكنه يأبى التوقف ، واصل التحرك بكل ثقة و واصلت التمزق بكل ألم . تجمدت الدماء في عروقي تجمد عقلي المشتت و تجمد جسدي الصغير في المقعد عدا عنقي الذي كان يلتوي إلى الوراء ، واصل القطار التحرك واصلت التجمد و واصل عنقي الالتواء. عيوني الحزينة الضاحكة اكتسحها سيل جارف من الدموع حتى أصبح المشهد ضبابيا كل شيء تبصره عيني أصبح ضبابيا عداه و كلما نظرت نحوه كلما غمرت الدموع عيني أكثر لكني كنت أبصره جيدا أبصره بكل تفاصيله ، كنت أبصر عيونه الباكية و إبتسامته الدافئة و شفاهه المرتعشة ثم أصبح يتوارى رويدا رويدا وسط الجموع ، تبا للجموع و تبا للقطار و تبا لكل شيء .

خطواته كانت ثقيلة ، ثقيلة جدا ثقل هذا الألم الذي جثم على صدري و كتم نفسي ، خطوات مكبلة متعثرة غير واثقة كطفل في خطواته الأولى ، واصل القطار السير و واصل عنقي الالتواء و واصل هو الاختفاء . شعرت أن كلي يتمزق ، أحشائي كبدي جسدي عقلي قلبي روحي و كل كياني يتمزق، كله كله كان يتمزق ، صوت صارخ يريد الإنطلاق من حنجرتي و دموعي المنهمرة تمنعه تحبسه تخنقه ، ٱه يا ربي ٱه يا جاهي ٱه يا رجائي خذ بيدي و خذني إليه فلست أريد غيره ، أريده بكل جوارحي أريده بشدة كما لم أرد شيئا من قبل وحدك ربي شعرت بما شعرت فإرحمني و إرحمه رجاءً .

كل شيء كان ينفصل عن كل شيء و كل شيء كان يتمزق بشدة ، ليس هناك أشد من إنفصال جسدي عاشقين متحابين في الله لا سوءا يضاهي هذا السوء و لا ألما يضاهي هذا الألم، مع كل خطوة كان يخطوها متواريا بين الجموع كانت عروقي تتمزق لم أتمنى شيئا لحظتها غير الركض المتواصل نحوه غير الهرولة دون توقف إلى حضنه إلى مسكني إلى موطني.

عنقي لا يزال ملتويا ، عيوني لا تبصر غيره وسط كل هذا الضباب ، كانت خطواته ثقيلة بادىء الأمر ثم فجأة أصبحت متسارعة جدا، سرعة خطواته كانت تسابق سرعة إنهمار دموعه ، يا للهول كان جلياً أن دموعه غلبته و لم يقدر لا على جمحها و لا على مداراتها و لا حتى على مجاراة نسق هطولها ، إنه يسرع هربا من الجموع يريد أن يخبىء عيونه المحمرة و دموعه المنهمرة على خده، دموع حارة ساخنة لاذعة تنزل في شكل متناسق تعرف جيدا طريق النزول حيث كانت قطراتها تتسارع في جدول رسم على خدوده التي بدأ الشيب في إكتساحها ، لم يكن يشعر بنسق خطواته المتسارعة فقط كان يشعر بنسق دموعه المنسكبة، كله كان يبكي، كل شيء فيه كان يبكي بغزارة كطفل سلب أمه للتو و ظل وحيدا وسط جموع لا يعرفهم و لا يعرفونه لا يشبههم و لا يشبهونه ، إنه الضياع إنه التشتت إنها الغربة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى