بقلم -محمد منير
يستطيع أي إنسان أن يفهم القلق لأننا بطبيعة الحال نقلق ،نقلق من نفاد المال نقلق من مقابلة عمل ،نقلق من الموت ،من الفشل ،لكن الإنسان القديم كان يفكر بمنطق أخر للقلق ،إذ كان قلقه محصوراً في دائرة الأكل و الشرب و النوم ،و كان خوفه من أن يستحوذ أحد على منطقة طعامه أو يأتي حيوان مفترس فيلتهمه ،لم يفهم كيفية التفكير في المستقبل لأنه مادام يأكل و يشرب و ينام فما حاجته إلى التفكير في شيء أخر ،أما اليوم فالإنسان يقلق من انتهاء باقة الانترنت أو يقلق لأنه سيقول كلمة أم جمع من الناس أو يقلق لأنه قد لا يحصل على الدرجة النهاية في الامتحان ،هل هذه الأشكال من القلق لا تستحق فعلاً أن يقلق الإنسان ؟
لا أحب أن أرى الأمور من منظور واحد ،مخ الإنسان معقد جداً ،ففي العالم القديم كان الخطر حقيقي فعلاً و يستحق ما يجازف المخ في فعله للمواجهة ،فحين يشعر بالخطر يقوم بإفراز هرمون الكورتيزول و الأدرينالين و النورأدرينالين ،الغريب أن المخ بعد تطوره المرعب و اكتسابه خصائص اجتماعية جديدة لمواكبة الحياة ،اكتسب صفة جديدة و هي عدم التفريق بين الخطر الحتمي و المعنوي ،فهو يتعامل مع الخوف من المستقبل كأنه نمر بنغالي ،و يتعامل مع الخوف من الفشل كأنه ثعبان الأناكوندا ،لذلك ليس عجيباً أن ترى ذلك الخوف المفرط من تلك الأشياء ،فالمخ حين يشعر بالخطر يرسل إشارة عصبية للغدة الكظرية فتفرز هرموناتها لتتهيج ضربات القلب و تتخشب العضلات استعداداً للخطر الجديد .
هل أصبحت الأمور معقدة ؟ سأحاول أن أبسط الأمر ،هناك منطقة في المخ اسمها اللوزة الدماغية “Amygdala” و هي منطقة خُلقت للكشف عن وجود خطر يهدد الإنسان فتقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايته ،شيء رائع أليس كذلك ؟
لا أحب أن أحبطك ،هل هذه المنطقة تكتشف فعلا الأشياء المخيفة لحماية الإنسان أم أنها تبالغ ؟ في الحقيقة الإجابة على هذا التساؤل صعبة فعلاً ،لأن أمخاخنا مختلفة و استجاباتنا للمواقف متباينة ،لكننا بالتأكيد لدينا أشياء مشتركة ،على سبيل المثال نحن نخاف من المجهول ( الجن و الموت و المستقبل) و نخاف من الأشياء غير المألوفة (حيوان مفترس مثلاً أو إنسان يموت تحت عجلات سيارة ) كما أننا نخاف من الأشياء الجديدة (السفر و العمل الجديد ) ،قد تفكر الآن و تقول أنا لا أخاف من تلك الأشياء ،أنت محظوظ يا صديقي لأنك إنسان نادر فعلاً ،لكن دعنا نتكلم عن هؤلاء البشر الذين يقلقون من هذه الأشياء .
نستطيع أن نقول أن اللوزة الدماغية تتعامل مع كل أنواع القلق بنفس الطريقة ،فمثلاً ما المخيف في المستقبل إن كنا لا نعلم عنه شيء ؟ سيقول أحدهم المخيف فعلاً هو أننا لا نعلم عنه شيء ،إن كنا لا نعلم عنه شيء فلماذا دائماً نفترض أسوأ السيناريوهات ،الأمر يبدأ بفكرة ،أنت مثلاً قلِق من المستقبل لأنك تشعر بمشاعر سلبية تجاه نفسك و الآخرين ،هل الفكرة انتهت هنا ؟ لا ،اللوزة الدماغية تأخذ هذه الفكرة لتحولها إلى واقع ملموس ،ماذا لو أنك فشلت ؟ أنت فشلت فعلاً ،ما لو أنك واجهت حيوان مفترس ؟ أنت واجهت حيوان مفترس فعلاً ،ماذا لو أن أحد أفراد عائلتك مات ؟ إنه مات فعلاً ،إنها تأخذ كل الأفكار و تتعامل معها بطريقتها الخاصة ،جهاز إنذار يجعل الجسم كله في حالة تشتت مما يفقده متعة الحياة .
لكن على النقيض تماماً هناك منطقة اسمها قشرة الفص الجبهي “Prefrontal cortex” ،و تلك المنطقة على عكس اللوزة تماماً تتعامل مع كل الأمور بشكل منطقي أقرب إلى الجمود ،تلك المنطقة هي التي تجعلك تعيش اللحظة الراهنة و تتخذ القرارات المنطقية و تكبت مشاعرك أمام الناس ،باختصار هي التي تجعلك إنسان
راقي أمام الجميع .
لكن ..دائماً هناك لكن ،هل دحض مشاعر الإنسان شيء جيد ؟ مثلاً إذا رأيت شحات في الشارع فقشرة الفص الجبهي التي تفكر بشكل منطقي تقول لك يحتمل أن يكون نصاباً ،أما اللوزة الدماغية التي تفرط في مشاعرها فتقول لك أن الصدقة لله و ليس للناس بل قد تشعرك بالذنب إذا لم تحسن إلى هذا الشحات ،هل فهمت الآن ما يحدث في مخك ؟
لا تميل إلى تضخيم الأمور أو تحجيمها ،حاول أن توازن بين الأفكار العقلانية و الأفكار القائمة على المشاعر ،و إلا تشتت تركيزك و أصبحت الحياة عسيرة بالنسبة لك ،أعرف أن الأمر صعباً لكن حاول ،أتمنى أن أكون قد جعلتك تفهم ما الذي يدور بمخك ولو قليلاً ..و الله ولي التوفيق .
أقرأ التالي
2023-09-27
من روائع الوصايا ” وصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الى زياد بن النظر وشريح بن هاني “
2023-09-27
قريتي في يوم الرحيل
2023-09-26
من أروع الوصايا ..وصية عمر بن الخطاب (رض) إلى سعد بن أبي وقاص وجنده
2023-09-24
مقتطفات من مقدمة ابن خلدون
2023-09-23
حورس يستقبل زائريه امام معبد ادفو
2023-09-22
استغل حياتك لفعل الخير
2023-09-22
انها مصر ام الدنيا
2023-09-21
العزة لا تنال هكذا !!!
2023-09-19
الحسين بن علي عليه السلام ومشاركته في الفتوحات الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى