هل يتمنى الإنسان أن يمرض ؟ ..متلازمة مانشاوزن
بقلم- محمد منير
الإنسان اجتماعي بطبعه ،لا يمكن لأحد إنكار هذه الحقيقة ،إنها سمة عجيبة تفردت بها النفس البشرية ،لكن لو بحثنا في أصل ذلك السلوك لوجدنا أننا جميعاً نحب لفت الأنظار إلينا ،نرى حقيقتنا من عيون الآخرين ،فماذا لو قلتُ لك أنك أصبحت تمتلك أموالاً كثيرة و جبال من الذهب الخالص و قصور عاجية لا يمكن تخيلها أبداً ، لكن فاجأتك في النهاية بأنك تعيش وحدك و لا يوجد بشر في هذا العالم الذي خُلق من أجلك ،هل ستكون هذه الأشياء الثمينة مهمة بالنسبة لك ؟.. أو ماذا لو قلتُ لك بالإضافة لامتلاكك كل تلك الأشياء أنت تعاني من مرض السرطان ،لذلك حين تقول “أه” _و هي اسم فعل مضارع بمعنى أتألم_ لن يكون لها معنى ،لأننا بفطرتنا الاجتماعية اختزلت عقولنا فكرة الألم في الضجة التي يثيرها ،فمثلاً لماذا نرتاح حين نجد الجميع حولنا و نحن مرضى ؟ ..قد ننكر تلك الحقيقة و نقول أننا لا نحب هذا الأمر ،لكننا لا شعوريا نحب رؤية الجميع ينشغلون بأمرنا ،نحب أن نكون مثيرين للاهتمام ،نحب أن يكون هناك تبريراً لكسلنا ،جملة مثل ” كيف تحملت كل هذه المعاناة ؟ ” ،تأثير هذه الجملة رائع و تجعل الإنسان يحس شعوراً جميلاً تجاه نفسه و أنه إنسان يناضل و يكافح حتى يبقى أمام الناس بهيئة مقبولة ،وهو أمر طبيعي بالمناسبة ،لكن لنأخذ الجانب المظلم من هذه المشاعر و ننظر في السلوكيات الغريبة للنفس البشرية .
نُشرت العديد من التقارير الأجنبية حول فتاة اسمها جيبسي روز تعيش مع أمها في وئام تام ،أو هكذا يبدو للناس ،لكن الأم كانت تتصرف بطريقة غريبة فيما يخص ابنتها جيبسي في البيت ،فلقد أقنعت الأم ابنتها أنها تعاني من السرطان و عدم القدرة
على الكلام بشكل جيد و عدم التنفس أثناء النوم ،رغم أن جيبسي ليست مصابة بشيء ،و وصل الأمر بالأم أنها كان تطعم ابنتها عن طريق أنبوب تغذية لأن الأم افترضت أن ابنتها مصابة بالشلل فكانت تُجلسها على كرسي متحرك ،و أصرت الأم أن تعيش جيبسي في معزل تام عن الناس و لذلك تأخرت كلامياً و حركياً ، و كان لدى الأم إصرار حازم على ألا يرى ابنتها أي طبيب يشكك في تشخيصات الأم ،فلماذا فعلت الأم كل هذه الأشياء ؟
صدر فيلم وثائقي عام 2017 بعنوان “Mommy Dead and Dearest ” ،و لقد أوضح هذا الفيلم الكثير من الغوامض التي تحيط بهذه الأم ،أولها أن الأم فعلت كل ذلك حتى تلفت النظر إليها ،حتى يرى الناس أنها تضحي من أجل ابنتها التي تعاني من كل هذه الأمراض ،هل تذكرون حين قلتُ لكم تأثير جملة “كيف تحملت كل هذه المعاناة؟” ،يبدو أن هذه الأم تتلذذ بشكل مرَضي حين يقول لها أحد هذه الجملة ،و هذه الحالة تسمى بمتلازمة مانشاوزن ،سميت بهذا الاسم نسبة لضابط ألماني اسمه “البارون فون مانشاوزن” و كان مشهوراً بالأكاذيب و افتعال المرض حتى يلفت النظر إليه .
فقد يقوم الشخص المصاب بهذه المتلازمة بإيذاء نفسه بحثاً عن نظرات الشفقة ،و قد يؤذي أحد أفراد عائلته أو يدعي أنهم مصابون بالأمراض رغبة في لفت انتباه و اهتمام الآخرين ،لكن قد يسأل أحدهم هل يمكن لأي شخص أن يصاب بهذه المتلازمة ؟ في رأيي هناك عدة أشياء يمكنها أن تبلور الأمر ،و هي أشياء يمكننا جميعاً فهمها، فمثلاً عدم الاهتمام بالرضيع قد يسهم بشكل غير مباشر في الإصابة ،فالطفل حين يجوع يصرخ و حين يغضب يصرخ و حين يتبرز يصرخ ،لكن هناك أم تستجيب لهذا الصراخ بسرعة فتذهب لتهدهد الطفل و أم أخرى تتكاسل ،أتفهم جداً معاناة الأم مع الطفل لكن أنا هنا أتحدث عن الطفل فقط ،فالطفل الذي يجازف في الصراخ حتى يحصل على مراده كاحتضان أمه مثلاً يمكن أن يسجل مخه هذه الذكرى كوسيلة للحصول على الاهتمام ،ففي صغره كان يصرخ و لما كبر وجد أن سلوك الصراخ في سنه الكبير أمر غير مألوف ،فيحاول أن يدعي المرض حتى يبرر سبب صراخه و منه يحصل على الاهتمام .
و يمكن أن تأتي هذه المتلازمة نتيجة عيب في شخصية الإنسان و هو ما نسميه اضطرابات الشخصية ،فالشخصية السيكوباتية مثلاً تتلذذ بالتلاعب بالآخرين و الكذب و ادعاء المرض وهي شخصية منافقة و لا تشعر بالذنب تجاه أي شخص مهما حدث ،أما الشخصية النرجسية فتريد بطبيعتها أن تكون محور اهتمام الآخرين طوال الوقت ،و الشخصية الهيستيرية التي تكثر بين النساء فترتدي ملابس فضفاضة لإغواء الرجال ،و قد تدعي أنها مصابة بمرض ما حتى تستحوذ على اهتمامهم و ترى الرغبة الجنسية في عيون الجميع رغم أنها تعاني من التبلد الجنسي ،و أخيراً الشخصية الحدية التي قد يتردد صاحبها و يندفع في سلوكيات بلهاء حتى يعرف رد الفعل تجاهه ليتعرف على نفسه لأنه طوال الوقت تائه بين الغضب و الحزن و الفرح بشكل مبالغ فيه .
أحياناً أظن أن معرفتنا بالنفس البشرية نقطة في بحر عميق ،و مع كل معرفة جديدة تتأكد لدي تلك الظنون ،ففي كل يوم نكتشف عمقها و مساوئها و جمالها ،و بقي أن نتأمل لنعرف حكمة الله في خلقه .