علمونا ونحن صغار، أن الخير لابد وان ينتصر، مهما تواضعت إمكانياته، وان الشر لن يجد في نهاية المطاف إلا الهزيمة والانهيار، مهما عظمت قوته وجبروته، علمونا ان شمس الحق ساطعة مهما تكاثرت حولها الغيوم، وان الباطل دائماً ما يتخفى عن الأعين ويتوارى، خوفاً من مصيره المحتوم، هذا ما سمعناه من آباءنا، وحفظناه عن ظهر قلب.
لكن عندما كبرنا وجدنا انفسنا أمام واقع مغاير لما تعلمناه، فوجدنا الشر قد عقد وفاقاً ودياً مع الانتصار، مكتوباً بدم الخير المذبوح بسيف قوة الشر الغاشمة، ووجدنا الحق يحتضر تحت أقدام الباطل، الذي اتخذ من الحق منصة يعتلي عليها ليناطح السحاب، ولهذا شعرنا ان ما تعلمناه في صغرنا كان مجرد قصص أطفال خيالية، وأساطير كأسطورة المدينة الفاضلة.
وذلك إلى ان جاء يوم السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣م، ومع انطلاق عملية طوفان الأقصى، عدنا لقواعدنا سالمين، حيث وجدنا ما تعلمناه وقد أصبح واقعاً ملموساً، لا يقبل التشكيك، فها هي مدينة غزه ذات الظروف المعيشية القاسية، والقوة العسكرية المتواضعة، تفرض أرادتها على العالم بأسره، وذلك بعد صمود ومقاومة لأكثر من عام وثلاثة أشهر، في مواجهة عدو مجرم، يحتمي بترسانة مدججة باقوى الأسلحة فتكاً وتدميراً، حيث تمكن شعب غزه المرابط، ان يجبر الكيان الصهيوني الغاصب على الرضوخ لمطالبه، وذلك رغم ما مرت به غزه وأهلها طيلة فترة الحرب من ظروف يصعب وصفها، وأوضاع يصعب تسميتها، فما حدث مع أهل غزه طيلة فترة حرب السابع من أكتوبر من قتل وتدمير وتجويع يفوق الخيال، وتعجز الكلمات عن وصفه.
ومع ذلك لم يخضع أهل غزه أو يتنازل عن ما اراده وطالب به منذ بداية عملية طوفان الأقصى، وها قد تم وقف إطلاق النار بناءاً على اتفاق يمثل صفعة مدوية، على وجه الكيان الصهيوني، حيث لم يستطع تحقيق أي من أهدافه المعلنة منذ بداية الحرب، فقد كان يعلن وبكل صلف انه سيحرر الرهائن الصهاينة بنفسه، وان فكرة الدخول في صفقة مع فصائل المقاومة الفلسطينية لتبادل الأسرى فكرة مرفوضة رفضاً باتاً، وانه سيقضي على حركة حماس وعلى أية مقاومة على أرض غزه واجتثاثها من الجذور، وذلك حتى الا تمثل غزه أية خطورة على الصهاينة وأمنهم، وقد قام العدو الصهيوني في سبيل تحقيق أهدافه بأفظع الافعال، وارتكاب أبشع الجرائم، من قتل وتدمير، وحصار وتجويع، مستخدم في ذلك أخطر أنواع الأسلحة، والمحرمة دولياً، ولكن دون جدوى، فشعب الجبارين استطاع مواجهة كل ذلك، والصمود حتى النهاية.
ورضخ العدو الصهيوني أمام المقاومة الفلسطينية الباسلة، وتم إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، وبالشكل الذي ارادته المقاومة الفلسطينية، حيث نص في مجمله على وقف العمليات العسكرية، وتبادل عدة الاف من الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية مع الرهائن الصهاينة لدى فصائل المقاومة، وانسحاب قوات الجيش الصهيوني من مناطق القطاع المختلفة، والمحتلة منذ السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣م، وعودة النازحين إلى مناطقهم وضمان حرية حركتهم، ودخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وقد دخل الاتفاق حيز التنفيذ في يوم التاسع عشر من يناير الجاري، وتم الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين، والرهائن الصهاينة، من خلال تنفيذ دفعتين من المرحلة الأولى للإتفاق، وقد تضمنت الدفعة الثانية التي نفذت يوم السبت الماضي رسالة للكيان الصهيوني مفادها ان المقاومة الفلسطينية مازالت باقية وبكامل عتادها، وستظل باقية طالما هناك احتلال، وان العدو الصهيوني ورغم كل ما ارتكبه من جرائم لم ينجح في القضاء عليها، حيث شارك في تبادل أسرى ورهائن الدفعة الثانية عشرات المسلحين من رجال المقاومة، هذا وقد بدأ النازحين رحلة العودة إلى شمال القطاع منذ عدة أيام، ليفاجأ العالم بطوفان بشري يزلزل الأرض تحت أقدام كل المتآمرين على بقائه، وذلك في مشهد مبهر توقفنا أمامه كثيراً، متأملين تلك الوجوه التي ارهقتها الحرب والحصار، وقد ارتسمت عليها ملامح النصر والشموخ.
لقد انتصر الشعب الفلسطيني في غزه رغم تواضع إمكانياته المادية، ذلك لانه صاحب الحق في الجغرافيا والتاريخ، صاحب الحق في الأرض والوطن، صاحب الحق في البقاء، ومن ثم كان لابد وان ينتصر، وهُزم الكيان الصهيوني رغم قوته الغاشمة، وكل ما ارتكبه من مجازر بشعة، وجرائم يندى لها جبين الإنسانية، ذلك لانه يمثل طرف الباطل في المعادلة، وبالتالي كانت الهزيمة مصيره لا محال.
وأخيراً، وجب علينا التقدم بكل الشكر والتقدير للشعب الفلسطيني العظيم، الذي أعاد لنا ثقتنا فيما تعلمناه في الصغر، ونشأنا عليه، فها هو الشعب المجاهد في يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك ان ما بني على باطل لابد وان ينهار أمام الحق وسطوع شمسه، ومهما طالت السنين.