قصة

وميض منام

وميض منام

قصة قصيرة بقلم: أحلام رحالي
مراجعة وضبط: تامر إدريس

 

سارة فتاة في ربيعها الثاني حالمة، بسيطة، مرحة، بارعة الجمال؛ يخجل البدر من تأمل جمالها فضلا عن مقارنة وضاءته بها. تتعامل مع الجميع ببراءة غير معهودة، لا تحمل أية مشاعر سلبية تجاه أي أحد. تنأى بنفسها عن التسبب بأي أذى لأي شخص صادفها في رحلة الحياة.
تتنكر لها الحياة للأسف وتأتي الأحداث خلافا لما تتوقعه من رد الجميل والاعتراف بالفضل؛ تحيط بها شخصيات سلبية وتصفعها الأيام بالحوادث المؤلمة مرة تلو أخرى؛ بدت وكأنها مغناطيس يجذب الهموم والأحزان والمصائب نحوه باستمرار، وكأن العالم على سعته آثر التضييق عليها وحدها؛ ضاق بها ذرعا وتفرغ لها خصيصا.
تمشي تارة وتهرول تارة أخرى، تبكي حينا وتصمت حينا، لا تذرف الدمع بقدر ما تتجرع الألم وتنزف الدماء حسًّا وجسدًا. لا زخات المطر تداعب محياها ولا الرياح النسيمية تحرك خافقها. لا الطريق الذاخر بالثقوب والحفر يضبط حركتها ولا احتمالية السقوط تنأى بها عن مواصلة المسير؛ تسقط وتنهض من جديد، تهرول لبعض الوقت ثم تتوقف فجأة. التيه والضياع وعدم الاهتداء مشاعر لا تفارقها وبلغ الأمر معها حد الذروة إذ سيطرت عليها رغبة ملحة في التخلص من حياتها. لم تكن تفكر في طريقة معينة تنهي بها حياتها (دهس سيارة، القفز من أعلى جسر ما، قطع شرايين يدها بسكين حاد…)؛ فكل السبل لديها سواء ما دامت ستوصلها إلى الغاية المنشودة في نهاية المطــــاف.
تسير وتسير وتسير بلا تنبه لما حولها أو استشعار لمخاطر الطريق، ينهمر المطر على جسدها وكأن السماء تعاقبها على تلك الحال، تصحو من سباتها السلبي لتفيق على صوت منبه سيارة مزعج يدوي في الآفاق محدثا صدى صوت مرعب مع السكون والفراغ وهدوء المكان؛ تحقق الحلم أخيرا إذ تصدمها تلك السيارة صدمة خفيفة فتطرحها أرضا فتطلق جملة حزينة مبكية تقول:”وأخيرا سأفارق هذه الحياة التي أكرهها وتكرهني”. لكن فرحتها الممزوجة بالألم تلك لم تدم طويلا فلا هي ماتت ولا حتى كسر شيء في جسدها النحيل كما كانت تطلب وتشتهي.
تجمع الناس حولها وخرجت المرأة التي كانت تقود السيارة المشؤومة تلك بفزع ورهبة للسؤال عن حالها ومعرفة ما جرى لها والاطمئنان على صحتها فإذا بها تتصفح الوجوه بغرابة شديدة وصمت رهيب، لا تسمع حرفا من أحاديثهم لكنها تفهم ما يقولونه من خلال قراءتها للشفاه، لملمت جراحها ونهضت وقالت :”اطمئنوا أنا بخير” ثم غادرت المكان مسرعة.
وفي الصباح نهضت منطلقة إلى مدرستها كالعادة، يوم دراسي آخر يمر سريعا كأمثاله لا شيء جديد يميزه. دقَّ جرس الانصراف وكانت أول من خبأت أدواتها بالمحفظة. خرجت دون أن تخبر أحدا عن حال صديقتها الغائبة عن المشهد. نزلت الأدراج مهرولة وكأنها تتزلج على السلالم. تجد نفسها في الطريق العام وفجأة تتسمر قدماها أمام منزل حبيبها.
حبيبها!!؛ وهل يعلم هو عن حبها له؟!؛ تتسارع ضربات قربها متخطية حدها الطبيعي لحظة رؤيتها له، يتسع بؤبؤ عينها فرحة بقدومه، يغزوها شغف لا يوصف حال استرجاعها لكل لحظة جمعت بينهما خاصة تلك النظرة الأولى حينما كان يتأملها في خجل وهي مارة من أمام بيته. ذات يوم كانت عائدة إلى بيتها عقب انقضاء يوم دراسي مرهق للغاية وإذ به يفاجئها باستراقه النظر إليها من جانب نافذة بيته المطلة على الشارع العام. نظرت إليه فأصابه الخجل وحول نظره للأرض حياء مما فعل ثم انصرفت ولم تقل شيئا.
أيام تمضي وهو وهي على نفس الحال فتمر عن قصد من أمام شرفة بيته وهو ينتظرها في ذات الموعد ليراها. لم تبالِ بأمره ولم تعره أي اهتمام في البداية إلا أن الحال تبدل فور خروجه عن دور المشاهد الصامت فتجرأ ذات يوم وانتظرها بالشارع قريبا من بيته وعندما مرت مر بجانبها وقال لها :”صباح الخير”. نظرت في وجهه ودققت في ملامحه قائلة له:” أكنت تراقبني طيلة هذا الوقت؟!، أنت من ينتظر مروري كل يوم؟!، أأنا المعنية بهذا الاهتمام؟!؛ فأجاب: “نعم”. احمرت وجناتها خجلا واضطرب قلبها اضطرابا شديدا وارتسمت بسمة صغيرة رقيقة على شفاهها ثم مضت مسرعة في طريقها إلى المنزل.
منذ ذلك اليوم الجميل وهي تتلهف لسماع رنين جرس المدرسة معلنا انتهاء اليوم الدراسي فتطير مع حقيبتها نحو الشارع فقط لتراه، لتلمح طيفه بالشارع. تجده أحيانا وأحيانا أخرى لا تجده. استمرت على تلك الحال فترة طويلة من الزمن وقد غمست في لذة لا مثيل لها تهز كيانها في كل ثانية. فرحتها العارمة لم تدم طويلا؛ فجأة لاحظت أنه لا يظهر ولا يخرج لملاقاتها ونافذته مغلقة دائما. مرت الأيام إلى أن وصلت إلى فترة الاختبارات وكالعادة تخرجت من المتوسطة بامتياز إلا أنها لم تعثر عليه لتخبره بنبأ نجاحها بتفوق وأنها ستنتقل العام القادم إلى المرحلة الثانوية بمشيئة الله.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى